لطالما كانت العديد من الحضارات الإنسانية مهتمةً وشغوفة بالفنون والحِرف الجمالية والإبداعية لتصوير تجليات مجدها وتوثيق مراحل حياتها، وخصوصاً المفصلية منها، ناهيك عن إنشاء وصُنع الأعمال الإبداعية والمظاهر الحضارية أيضاً، ولقد كانت الفسيفساء خير وسيلة موفقة وناجحة لتأدية هذه الغايات في العديد من المراحل والفترات الزمنية، إذ عكست أبعاداً تاريخية وثقافية وفنية مهمّة وأرّخت لمراحل حضارية وإنسانية في بقاع مختلفةٍ من العالم بدءً من العصور القديمة حتى يومنا هذا.
في هذا المقال؛ نُعرّف المقصود بمصطلح فسيفساء أو ما هي الفسيفساء، كما نسرد لمحة تاريخية عن فن الفسيفساء ونوضح بعضاً من أبرز جوانبه وأُسسه، جنباً إلى جنب مع استعراض قائمةً من أهم اعمال الفسيفساء والإشارة إليها بإيجازٍ وافٍ.
ما هي الفسيفساء؟
يُنسب إنتاج أولى اعمال الفسيفساء إلى حضارة الرافدين أو حضارة ما بين النهرين أو الحضارة السومرية في العراق بحسب المراجع التاريخية، التي تروي انتقال هذه الحرفة إلى آفاق عالمية لاحقاً في مقدمتها الحضارة الرومانية بعد الحضارة السومرية، والحضارة العربية الإسلامية أيضاً.
فيما ينحدر مصطلح فسيفساء من الكلمة الإغريقية ” psephos ” أو ” بسيفوس” التي تُشير لمعنى الفسيفساء جنباً إلى جنب مع تسمية ” Muses” أو “Musaic” أو “موزاييك” اللاتينية أيضاً والتي تشير إلى ما يعتبرها اليونايون القدامى آلهة الفنون والجمال والإلهام الفني.
ويُعرف مفهوم فسيفساء إجمالاً على أنه الفن أو الحرفة التي تستخدم مواد متنوعةً أبرزها الحجارة والمعادن والأصداف والزجاج كوسيلة لتشكيل وصناعة زخارف أرضية أو جدارية أو سقفية بشكلٍ فني وإبداعي، أو صناعة مجسمات وهياكل مبتكرة وخلّاقة ببراعة ومهارة تُعبّر في المجمل عن عناصر وقيم جمالية أو دينية أو ثقافية أو حضارية وفنية.
وفي ما كان الغرض الأساسي من الفسيفساء يتمثل بادئ الأمر في إسناد المنشآت المعمارية وتزيينها؛ فلقد غدى مع توالي السنوات والعصور فناً معمارياً وحِرفياً مُستقلاً تتناقله الحضارات ليصوّر تجليات جمالية ويُؤرخ حقباً ومراحل تاريخية من أعمار الحضارات والشعوب، وقد برع المسلمون في استخدام الفسيفساء في الأعمال البنائية والفنية ليُصبح وسماً تتسم بهذه الحضارة العربية الإسلامية وتتفوق به في أقطارها الشاسعة، حتى أنه يُعتقد أن تسمية مدينة فاس في المغربية اتُخذت نسبةً لتميزها في اعمال الفسيفساء الفريدة، وفضلاً عن ذلك فتُسمى مدينة مادبا في الأردن بمدينة الفسيفساء أيضاً، وتزخر مناطق متعددة من أرجاء الحضارة العربية الإسلامية بأعمال وفنون فسيفساء مميزة ومُدهشة ولعّل من أهم هذه المناطق والأقطار منطقة بلاد الشام أو الهلال الخصيب وبالأخص كُلاً من فلسطين وسوريا والعراق، ناهيك عن ازدهار فن الفسيفساء في الأندلس ومناطق المغرب العربي وما سواها من الأقطار العربية والإسلامية في الشرق والغرب أيضاً.
أهم عناصر فن الفسيفساء
فيما يأتي فن الفسيفساء على هيئات متعددة ومختلفة قد تتجلى في رسم فسيفساء على الجدران أو الأسقف أو صناعة فسيفساء بلاط أو تكوين رسمة فسيفساء على شكل مجسمٍ من فسيفساء زجاج؛ فإن ذلك ما يتطلب خليطاً من موادٍ وعناصر مُعيّنة لتشكيله، وقد تختلف هذه العناصر والمواد تِبعاً لطبيعة ما يُراد تكوينه وصناعته من أشكال أو اعمال فسيفساء جنباً إلى جنب مع الجودة المطلوبة لهذه الأعمال وما يتوفر من المواد اللازمة لها، وتتبدّى عناصر فن الفسيفساء إجمالاً بما يلي مع الإشارة إلى عدم ضرورة توفرها كُلها لدى صناعة اعمال فسيفساء بنائية أو فنية وإبداعية:
- الحصى
- الأحجار من الأنواع المختلفة بما يشمل الغرانيت، والسبانيت، والبورفينو، والبازلت، وغيرها
- الصخور الرخامية، والصخور الرسوبية، والصخور المتحولة، والصخور المستخرجة من الكهوف
- الأحجار الكريمة بما فيها كُلاً من العقيق واللازورد والكوارتز واللؤلؤ وغيرها
- الرمل والطين
- الإسمنت
- الماء
- الفخار
- الزجاج
- الصدف
- الكلس
- الطوب المطحون
- وتجدر الإشارة في هذا السياق؛ إلى اتخاذ أعمال فن الفسيفساء أشكالاً هندسية مختلفة تعتمد على إيقاع اللون والخط في تكوين الوحدة التشكيلية الظاهرة التي تُدعى بتسمية البساط للعمل الفسيفسائي، ويقصد بها الأرضية المبنية من مكعبات صغيرة وملونة إما من الحصى أو الأحجار والصخور الرخامية أو الفخار أو الزجاج أو الصدف، وهي ذات أشكال حركية تشكل زخرفة هندسية أو نباتية أو إنسانية أو حيوانية بشكلٍ فنيٍ وإبداعي.
خطوات صناعة وتشكيل فسيفساء
يستعين تكوين اعمال الفسيفساء بتقنيات مختلفة ومتعددة تعتمد في جُلها على عُنصرين أو جزأين رئيسيين وهما اللذان يُعرف الأول منهما بالحامل أو الطبقة والبُنية التحضيرية والأساسية لعمل فسيفساء، والآخر بالسطح المزخرف الظاهر أو البساط الذي يتضمن كُلاً تفاصيل الشكل الظاهر للعمل الفني الفسيفسائي بما يشمل الإطار والزخارف والمساحة بين الحدود المعمارية للبناء أو الشكل الفسيفسائي وما إلى هنالك من العناصر والتفاصيل الواضحة من أي لوحة فسيفساء أو رسمة فسيفساء، وبشكلٍ عام؛ فتتمثّل خطوات صناعة وتشكيل أعمال الفسيفساء بما يلي:
- رسم الصورة أو الشكل المُراد تنفيذه بالفسيفساء على الورق أو أي وسيلة أخرى مناسبة بشكلٍ مبدئي وبالحجم الذي يُراد تنفيذه به ولكن بشكلٍ معكوس
- تجزئة كل مساحة لونية من الرسم إلى أقسام صغيرةٍ بما يوازي عدد القطع والمكعبات الصغيرة التي سيجري رصفها في عمل فسيفساء
- وضع مكعبات الفسيفساء الملونة تِبعاً للرسم المبدئي، وصقل أحجام القطع بما يتلائم من العمل الفسيفسائي المراد تنفيذه
- استخدام مواد الإلصاق من قبيل الغراء الأبيض أو “السيكوتين” أو غيرها من أجل إلصاق وتثبيت قطع الفسيفساء الصغيرة
- تنفيذ رسم الزخارف ضمن إطار خشبي أو حديدي بحيث تكون الورقة في الأسفل
- تجهيز عناصر تنفيذ الفسيفساء بما فيها كُلاً من الإسمنت والرمل والماء وما سوى ذلك
- سكب مزيج أو خليط المواد المستخدمة لصناعة الفسيفساء في الإطار الذي تم رصف قطع الفسيفساء فيه
- الانتظار إلى أن تجف هذه العناصر من ثم قلب الإطار بما يحتوي عليه من مواد وعناصر
- الاستعانة بإسفنجة مبللة لنزع ورقة الرسم بسلاسة
- إنتاج لوحة فسيفساء أو رسم فسيفساء ملّون ومُزخرف بطريقةٍ إبداعية
- تثبيت مجسم الفسيفساء في المكان الذي يريد الصانع تثبيته عليه أو فيه
أبرز وأهم اعمال الفسيفساء في العالم
في حين تبرز أعمال فسيفساء في مناطق مختلفة من العالم لتُزيّن المباني والجدران والمساجد والكنائس والقصور وما سوى ذلك من المعالم ناهيك عن المجسمات والأشكال الفسيفسائية الرائعة في ما سوى تلك التي تدخل في أعمال البناء؛ فإن هنالك بعض أعمال فن الفسيفساء الخالدة التي تُشكل علامة فارقة في هذا الفن وتتميز بجماليتها وحجمها وقيمها وتاريخها، ولعلّها تأخذ منطقة بلاد الشام النصيب الأكبر من هذه الأعمال، إذ تتجلى أبرز وأهم اعمال الفسيفساء في العالم بما يلي:
- لوحة فسيفساء قصر هشام التي تُعد أكبر لوحة فسيفساء في العالم | أريحا – فلسطين
- خارطة مدينة القدس | مادبا – الأردن
- لوحة فسيفساء الفصول الأربعة | شهبا – سوريا
- فسيفساء أم الرصاص | عمّان – الأردن
- لوحة العشاء الأخير | قلعة المرقب – سوريا
بهذا نكون قد قدّمنا لك في هذا المقال؛ معلومات وافية ومتكاملة عن الفسيفساء، وذلك بما يشمل تعريف ما هي الفسيفساء، وتوضيح أهم عناصر فن الفسيفساء، جنباً إلى جنب مع سرد خطوات صناعة وتشكيل فسيفساء، واستعراض أبرز وأهم اعمال فسيفساء في العالم أيضاً.
إذا كنت ترغب بالحصول على المزيد من المعلومات، وقراءة العديد من المقالات المهمّة والشيّقة الأخرى؛ فإننا ندعوك لتفقّد مدوّنة بيّوت السعودية والبقاء على اطّلاعٍ بكُلِ جديدٍ أولاً بأول.