يقول الله عزّ وجلّ في القرآن الكريم “وجعلنا الليل لباسا”، وفي ضوء معرفتنا بحكمة الله سبحانه وتعالى فإنه ينبغي لنا أن نتأمل في هذه الآية الكريمة وأن نُدرك معانيها ومقاصدها بشكلٍ عميق، وفي هذا الصدد؛ فلقد أشارت دراسات علمية حديثة إلى أهمية اهتمام الناس بإفراز هرمون “الميلاتونين” لديهم وهو الذي تنتجه الغدة الصنوبرية في الدماغ ليقوم بدورٍ فاعلٍ في تنظيم دورة نوم الإنسان، وفيما يُسمى هذا الهرمون بـ”بهرمون ساعة الجسم” نظراً لتنظيمه وظائف الجسم وإرساله الترددات المناسبة في الأوقات المناسبة لأعضاء الجسم من أجل الإشارة إلى أوقات النشاط وأوقات النوم؛ فإنه يُدعى كذلك باسم “هرمون السعادة” تِبعاً لتأثيره المتصل بتقليل اضطرابات النوم،
وبالتالي تقليل أو الحد مما ينتج عنها من اضطرابات اجتماعية ونفسية وسلوكية، ولعلّ أكثر ما هو لافت في الأمر إنّ كنّا نريد أن نربط هذا الحديث بموضوع التلوث الضوئي الذي هو مادة موضوعنا في هذا المقال؛ فإن إفراز هرمون الميلاتونين يتعزز في العتمة وينخفض أو يتوقف بتأثير الأضواء المحيطة، إضافةً إلى أنه يرتفع إفرازه في أوقات المساء أو الليل، وينخفض أو يتوقف في أوقات الصباح أو النهار، وفي حين أن هذا الأمر بمثابة أحد تأثيرات التلوث الضوئي؛ فإن هنالك العديد من التأثيرات الأخرى المرافقة له أيضاً والتي ينبغي البحث في أنواعها وأسبابها وحلولها أيضاً.
لذا؛ فإننا نوضح في هذا المقال؛ ما هو المقصود بمصطلح أو مفهوم التلوث الضوئي إلى جانب تفصيل أسبابه واستعراض أنواعه، كما أننا نبحث في حل مشكلة التلوث الضوئي بإيجازٍ وافٍ أيضاً.
ما هو التلوث الضوئي ؟
يُعد مصطلح التلوث الضوئي حديثاً نسبياً إذ ظهر في ثمانينيات القرن الماضي، ويُعرّف مفهوم التلوث الضوئي على أنه الانتشار الكثيف والعشوائي لعناصر الإضاءة الاصطناعية في البيئة الليلة سواءً الخارجية -وهي الغالبة في القصد من وراء المفهوم- أو الداخلية أيضاً وهي التي تحظى باهتمام كبيرٍ من الباحثين والعلماء والمختصين كذلك، ويُدعى الأمر بـ”التلوث” الضوئي نظراً لما ينجم عنه من تأثيرات ضارة ومتعارضة مع النُظم البيئية والعلمية والفلكية جنباً إلى جنبٍ مع النظم الصحية أيضاً في بعض أو كثيرٍ من الأحيان؛ مما يجعله يكتسب أهميةً كبيرة إضافةً إلى حثّه وإلحاحه على إيجاد الحلول المناسبة والملائمة له.
أبرز اسباب التلوث الضوئي
يكمن السبب الأساسي والرئيسي لحدوث التلوث الضوئي في الاستخدام غير الضروري والعشوائي للضوء الصناعي، وهو الذي يتجلى عادةً في كُلٍ من عناصر الإضاءة الخارجية والداخلية أيضاً بما يشمل إنارات الشوارع والطرق، وإضاءات السيارات، وإضاءات الإعلانات ومواقف السيارات، وكذلك كُلاً من أنوار المنازل، والمكاتب، والمصانع، والمرافق أو الملاعب الرياضية، وما إلى هنالك من المرافق والعناصر الأخرى المتوهجة بالإضاءة العارمة.
انواع التلوث الضوئي
ترتبط انواع التلوث الضوئي إلى حدٍ كبيرٍ مع الأسباب المؤدية لحدوث تلوث ضوئي عبر التنسيق العشوائي وغير الضروري أو الفائض عن الحاجة، وفي ما يلي نستعرض بإيجازٍ وافٍ أبرز هذه الأنواع:
تعدّي الضوء
ويُقصد بذلك تجاوز سطوع عناصر الإضاءة للنطاق أو المحيط المستهدف منها مما قد يُفضي إلى تشكّل تلوث ضوئي غير ضروري وفائض عن الحاجة أو الضرورة.
فرط الإضاءة
وهو الذي يتمثل في استخدام عناصر إضاءة تحقق نسبة وكمية إضاءة أكبر من النور المطلوب لإضاءة المنطقة التي توجد فيها عناصر الإضاءة بحيث قد يصبح الأمر مزعجاً ومُبالغاً فيه إلا أنه قد يكون لافتاً أيضاً كما هو الحال في منصات الإعلانات الكبيرة في الطرق والشوارع العامة أو على واجهات المحلات التجارية والعمارات، ذلك جنباً إلى جنبٍ مع استخدام الإضاءة في أوقاتٍ غير ضرورية مثل أوقات النهار، أو إنارة عناصر لا تتطلب الإضاءة الكبيرة أو أنها لا تتطلب الإضاءة مُطلقاً، وتجدر الإشارة إلى أن فرط الإضاءة قد يتسبب في التلوث البيئي إضافةً إلى التلوث الضوئي أيضاً؛ تِبعاً لما قد يستهلكه الأمر من كمية طاقة بترولية وكهربائية.
التوهج الضوئي
يشير هذا النوع من أنواع التلوث الضوئي إلى السطوع المفرط أو انعكاسات الضوء الكبيرة التي تنجم عن التشتت الضوئي والكميات الكبيرة من الضوء، مما قد يتسبب بأعراض صحية خطيرة على العيون ومدى الرؤية وحاسة البصر سواءً للبشر أو الحيوانات أو الطيور أو غيرها.
فوضى الضوء
يُعنى بهذا النوع من التلوث الضوئي؛ الإزعاج الذي قد يتسبب به التنسيق غير الملائم أو العشوائي لعناصر الإضاءة وهو الذي يودي إلى التشتيت والضجر في كثيرٍ من الأحيان.
الأقمار الاصطناعية
تؤدي الإضاءات والأضواء الساطعة التي تنبعث من الأقمار الصناعية وخصوصاً في ظل تزايدها؛ إلى احتمالية تشيت وحجب الإَضاءة الكاملة المنبعثة من النجوم وعناصر الفلك، إضافةً إلى إعاقتها عمل المختصين الفلكيين أيضاً، وهو ما يُعد تلوث ضوئي واضح ومحتم في بعض الأماكن والأوقات.
أهم تأثيرات التلوث الضوئي
يعكس التلوث الضوئي جُملة من التأثيرات السلبية والضارة على كُلٍ من الكائنات الحيّة بما فيها الإنسان، وكذلك على النظام البيئي بشكلٍ عامٍ أيضاً، وتتمثل أبرز هذه التأثيرات بالتالية:
- الإضرار بصحة الإنسان بسبب التعرض للضوء الزائد في الليل، وحدوث اضطرابات النوم، واضطراب الساعة البيولوجية الذي قد يصيب الناس والحيوانات أيضاً، والذي قد يأتي بتداعياتٍ صحية بما فيها انخفاض الطاقة في أوقات الصباح أحياناً
- إهدار الكهرباء ومصادر الطاقة التي نحتاجها لإنشاء الطاقة الكهربائية
- التشويش على رؤية السائقين ليلاً بسبب الضوء المنبعث من اللوحات الإعلانية والمصابيح في الشوارع، وبالتالي إمكانية التسبب بحوادث الطرقات
- التأثير بشكل كبير على عمل علماء ومختصي الفلك وإضعاف قدرة المراصد الفلكية تِبعاً لتشويش التلوث الضوئي على رؤية النجوم والمجرات ليلاً
- زيادة تلوث الغلاف الجوي بسبب انبعاثات موجات الإضاءة الاصطناعية
- التقليل من استقطاب السماء الطبيعي وانعكاس ضوء القمر
- احتمالية اضطراب العديد من النظم البيئية
- التأثير على حياة الحيوانات بما يشمل إعاقة قدرتها على التوجيه البصري والتنقل، وتحفيز السلوكيات غير المعتادة في أوقاتٍ مختلفة من اليوم
- التأثير على التوجيه البصري للطيور، والتسبب باحتمالية تغيير مساراتها بسبب الانجذاب إلى الإضاءة مما قد يؤدي إلى الاصطدام ببعض العناصر مثل النوافذ أو جدران البنايات أحياناً أو اصطدامها ببعضها أحياناً أخرى بسبب التشويش والتلوث الضوئي الذي يتخلل مساراتها
- والتأثير على الطيور في هجرتها تِبعاً لاعتمادها على الكوكبات النجمية أثناء الهجرة الموسمي، وتقليل التوهج الضوئي من وضوح هذه الكوكبات ورؤيتها بالنسبة للطيور
وأيضا من هذه التأثيرات بالتالية:
- التأثير على النباتات عبر حؤول التلوث الضوئي دون إتمام عملية التمثيل الغذائي والبناء الضوئي على أفضل حال، إلى جانب تقليص حصة النباتات في الحصول على ما تحتاجه من الليل والظلام للنمو وهو الذي قد تحتاجه بعض النباتات كحاجتها لضوء الشمس والنهار أيضاً
- يعيق حدوث تلوث ضوئي من وصول نباتات العوالق البحرية من الوصول إلى الطحالب السطحية، كما قد يؤدي الأمر إلى موت العديد من النباتات التي تنمو في البحيرات جنباً إلى جنبٍ مع انخفاض جودة مياه هذه البحيرات والمسطحات المائية
- قد تتأثر وتنخفض استجابة الأشجار للتغيرات الموسمية والتكيّف معها بسبب التلوث الضوئي الذي قد يُفضي إلى صعوبة تخلص الأشجار من أوراقها التالفة لدى حاجتها لذلك، وهو الأمر الذي ينعكس على الإضرار بالحيوانات ونظامها الغذائي القائم في جزءٍ منه على تغذّيها على هذه الأوراق
- يؤثر التلوث الضوئي كذلك على ضعف نمو العديد من النباتات التي تعتمد على التلقيح الليلي الذي يُنجز بواسطة حشرات العث، وبانخفاض حالات التلقيح الليلي للنباتات؛ فإنها قد تتقلص أعداد هذه النباتات على المدى البعيد عطفاً على عدم قدرتها على التكاثر بشكلٍ طبيعي، الأمر الذي قد يُسهم في تغيّر النظام البيئي إجمالاً
- يُقلص التلوث الضوئي ويحد من قدرة بناء الطيور لأعشاشها على الأشجار
- تعكير قدرة الكائنات الحية وعيونها على الاسترخاء والهدوء
- تغيير الروتين البيئي للإنسان والحيوانات والحشرات والفطريات والنباتات
- التأثير على سلامة المنظر البيئي وإمكانية تعكير صفوه على النحو الطبيعي
أبرز الحلول المقترحة والمُتعبة لمشكلة التلوث الضوئي
يتزايد الوعي بمفهوم ومشاكل وتأثيرات التلوث الضوئي يوماً بعد آخر خصوصاً منذ ثمانينيات القرن الماضي، وفي هذا الصدد؛ فلقد ظهرت مجموعة من المنظمة العالمية المتخصصة التي تصب اهتمامها نحو إيجاد وتنفيذ حل مشكلة التلوث الضوئي بشكلٍ ملائمٍ وفاعل مسترشدة في ذلك بما تُدعى خريطة التلوث الضوئي وهي التي تُبيّن المناطق المتأثرة بحدوث تلوثٍ ضوئيٍ أكثر من غيرها في بلدٍ أو مدينةٍ مُعيّنة بناءً على الإحصاءات والبيانات الواردة من الجهات المختصة، وفي هذا السياق؛ فلقد وضعت هذه المنظمات جُملة من المقترحات التي أوصت بتنفيذها على اعتبارٍ أن كُلاً منها يمكن عدّه بوصفه حل مشكلة التلوث الضوئي أو أحد حلول هذه المشكلة،
وفي ما يلي نستعرض أبرز هذه الحلول المُقترحة:
- استخدام مصادر الضوء ذات الحد الأدنى من الشدة اللازمة أو السطوع اللازم لتحقيق الغرض من الإنارة
- إطفاء الأضواء باستخدام مؤقت أو مستشعر إشغال أو يدوياً لدى عدم الحاجة لها أو عدم استخدامها
- تحسين تركيبات الإنارة عبر توجيه الإضاءة بشكل أكثر دقة نحو المكان المطلوب إضاءته مما يقلل من الآثار الجانبية لتوزع الإضاءة وتشتتها
- استخدام أنواع الإنارة ذات الموجات الضوئية الأقل احتمالية من حيث التسبب في مشاكل تلوث ضوئي وذلك بما يشمل الالتفات إلى قدر توهجها، ونسبة تعدي الضوء منها، وحجم الفوضى الضوئية التي قد تُحدثها
- تقييم تصاميم تنفيذات الإضاءة، وإعادة تصميم بعض أو كل هذه التنفيذات اعتماداً على ما إذا كانت الإضاءة ضرورية بالفعل أو فائضة عن الحاجة
- التقليل من عناصر الإضاءة غير الضرورية في المنازل والمكاتب وما سوى ذلك من الأماكن الأخرى
- استخدام الأغطية الخارجية التي توضع على المصابيح، والتي تعمل كحجاب خارجي لمصدر الضوء، لتقلل من الوهج الصادر عنه، وبالتالي تقلل من تأثير التعدي الضوئي
- التخفيف من مصادر الإضاءة الزرقاء ليلاً عطفاً على كونها تُسهم في زيادة التوهج الضوئي وتزيد من فرصة تعرَض الناس للمشاكل الصحية، واحتمالية تغيّر سلوك الكائنات الحية، كما أنها تزيد الإضاءة الزرقاء من التوهج السمائي؛ الذي يمتد إلى مسافات جغرافية بعيدة
بهذا نكون قد قدّمنا لك في هذا المقال؛ معلومات وافية ومتكاملة عن مشكلة التلوث الضوئي بما يشمل التعريف عنها، وتوضيح أسبابها، واستعراض أنواع التلوث الضوئي، إلى جانب تبيان تأثيرات ظاهرة التلوث الضوئي، وكذلك سرد أبرز الحلول المُقترحة للمشكلة والسيطرة عليها.
إذا كنت ترغب بالحصول على المزيد من المعلومات، وقراءة العديد من المقالات الأخرى المهمّة والشيّقة؛ فإننا ندعوك لتفقّد مدوّنة بيّوت السعودية والبقاء على اطّلاعٍ بكُلِ جديدٍ أولاً بأول.