لا يقتصر مفهوم الصحة أو العافية الإنسانية علمياً على السلامة الجسدية فحسب؛ وإنما يشتمل معانٍ أخرى تتمثل مُجملةً ومجتمعة في التكامل ما بين السلامة البدنية أو الجسدية، والنفسية أو العقلية، والاجتماعية أو السلوكية، وتكمن أهمية الصحة النفسية في هذا الصدد؛ بكونها عاملاً أساسياً ومؤثراً في التحكم بالسلوكيات والتصرفات، جنباً إلى جنب مع انعكاسها على ضبط المشاعر والعواطف والحالات المزاجية للأشخاص.
في هذا المقال؛ نبحث بإيجازٍ وافٍ في مفهوم الصحة النفسية التي تُسمى كذلك بالصحة العقلية لنخلص إلى نتيجة تُعرّف ما هي الصحة النفسية كتفسيرٍ علميٍ ومنطقي متداول ومتفقٌ عليه، كما سنبيّن أبرز أسباب وأعراض المشكلات النفسية، ونستعرض أهم طرق العلاج من المشكلات النفسية، جنباً إلى جنب مع إيضاح بعضٍ من كيفيات وقاية الصحة النفسية كذلك.
ما هي الصحة النفسية؟
تُعرّف منظمة الصحة العالمية الصحة النفسية على أنها الحياة التي توفّر الرفاهية والاستقلال والجدارة والكفاءة الذاتية بين الأجيال، وتكفل إمكانات الفرد الفكرية والعاطفية، كما تُشير إلى أن رفاهية الفرد تشمل التمكّن من إدراك القدرات والتعامل مع ضغوطات الحياة العادية بكفاءة وفاعلية، ناهيك عن القدرة على الإنتاج ومساعدة المجتمع بنجاعةٍ وتأثير إيجابي ونشط وفعّال.
ومن ناحية أخرى؛ فتُعبّر آراء مختصة في علم النفس عن الصحة النفسية بكونها انعكاساً لمدى خلو العقل من الاضطرابات، ومستوى قدرة الأفراد على الاستمتاع بالعيش، وتحقيق التوازن بين متطلبات الحياة وأنشطتها الترفيهية لخلق المرونة والاستقرار، وتعزيز أو تغذية العاطفة الإيجابية والسلوك الجيد.
أبرز أسباب المشكلات النفسية
تختلف أسباب التعرض للمشاكل النفسية، وتضرر الصحة النفسية أو العقلية تِبعاً لعدة عوامل منها ما هي مكتسبة، وأخرى أصيلة أو جذرية، وفيما لا يمكن تحديد أسباب انحدار مؤشرات الصحة النفسية أو أسباب الإصابة بالمشاكل والأمراض النفسية على وجه الدقّة في بعض الأحيان؛ فإنها قد تنتج في العديد من الأحيان عطفاً على ما يلي من المسببات:
الأسباب البيئية
تتمثّل الأسباب البيئية للمشكلات النفسية؛ بعوارض وضغوطات الحياة اليومية والبيئة المحيطة وما يجري فيها من أحداث قد تضر بالصحة النفسية.
الأسباب العضوية
وهي التي تتبدّى بمشاكل في كيمياء المخ، وتحديداً في سوائل النواقل العصبية التي تُرسل الإشارات إلى الأجزاء والعناصر الأخرى من المخ والعقل والجسم، إذ قد يؤثر تقلّص النواقل العصبية المعنية وانخفاض منسوب السوائل التي تحتوي عليها وأبرزها مادة السيروتونين ومادة النورادرينالين؛ على ضعف الشبكات العصبية، مما ينعكس على وظيفة مستقبلات وأنظمة الأعصاب، الأمر الذي قد يؤدي بدوره للتأثير على الصحة النفسية بمستويات متفاوتة ومتغيّرة وفقاً لانخفاض أو ارتفاع منسوب هذه السوائل والمواد أو الهرمونات.
التعرّض للأضرار قبل الولادة
يُمكن أن يؤثر تعرّض الجنين للكحول أو المخدرات أو المواد السامّة أثناء فترة الحمل وقبل الولادة إلى الإصابة بأمراض أو مشاكل الصحة النفسية، كما قد ينجم ذلك عن الالتهابات المحتملة او الضغوطات البيئية أثناء الحمل وقبل الولادة.
الصفات الوراثية
قد تزيد نسبة احتمالية الإصابة بالمشاكل النفسية أو تدني مؤشرات الصحة النفسية السليمة لدى الأشخاص الذي يعاني أحدٌ من أقاربهم أو أفراد عائلاتهم الصغيرة من مشاكل أو اضطراباتٍ نفسية، وذلك إما عن طريق التناقل الوراثي للجينات، أو العيش في نمطٍ وأسلوبٍ حياتي مُسببٍ لذلك، وهذا مع الإشارة إلى عدم حتمية أو ضرورة ذلك وبقاء الأمر في إطار الاحتمالية تِبعاً للمؤشرات السلوكية والبيئة المحيطة.
أبرز أعراض تدهور الصحة النفسية
عادةً ما ترافق مشاكل الصحة النفسية جُملةً من الأعراض والمؤشرات المختلفة والمتباينة التي تُنبئ بوجود حالةٍ نفسية غير مستقرة اعتماداً على نوع الاضطراب وحالته، وقد تتمثّل أبرز هذه الأعراض ببعضٍ أو كلٍ مما يلي من المشاعر والسلوكيات والأفكار:
- الشعور بالحزن أو الكآبة بشكلٍ مستمرٍ أو بين الحين والآخر
- التفكير المشوَّش أو المُعكّر وشتات التركيز أو ضعفه والشعور بمواجهة صعوبة في اتخاذ القرارات على غير العادة
- تولّد المخاوف أو القلق الشديد مع حالاتٍ من الشعور بالذنب
- تقلبات حادة في الحالة المزاجية انخفاضاً وارتفاعاً بين استقرارٍ وعدمه
- الابتعاد عن الأصدقاء والأنشطة المعتادة
- الشعور بالإرهاق والتعب الشديد وانخفاض الطاقة دون سبب واضح
- العزلة عن الواقع والدخول في حالاتٍ من الأوهام أحياناً أو ما تُدعى حالة “البارانويا” أو الهلاوس
- عدم القدرة أو انخفاضها في مواجهة المشاكل والضغوطات اليومية
- الشعور بصعوبة في الاستيعاب والإدراك وحدوث مشاكل في فهم المواقف والأشخاص والتعامل معهم أحياناً
- التغييرات والتقلبات في عادات الأكل والتغذية أو النظام الغذائي
- تغيرات في الدوافع الجنسية
- الغضب الشديد أو حالاتٍ من الانفعالية العدائية أو العنف غير المبرر
- احتمالية التفكير في الانتحار أو إضرار النفس في بعض الحالات
- احتمالية الشعور بالانحطاط النفسي أو الأقلية وعدم الثقة في بعض الأحيان والحالات
- احتمالية انخفاض الوزن أو زيادته على نحوٍ مفاجئ وغير مستقر
- فقدان الاهتمام والشغف بالأنشطة المعتادة
- صعوبة النوم أو الخمول والإفراط فيه
- حدوث نوبات من البكاء أو العاطفة الشديدة والجيّاشة بشكلٍ استثنائي
- احتمالية حدوث مشاكل صحية جسدية مثل آلام المعدة أو الظهر أو الشعور بالصداع وأية آلام أخرى دون تفسيرٍ واضحٍ لها
أهم طرق علاج الصحة النفسية
تبدأ رحلة العلاج النفسي بقرارٍ ذاتي من الشخص المصاب أو الذي يواجه مشكلة تدخل في إطار الصحة النفسية؛ بغية التخلص من هذه المشكلة والوصول أو العودة إلى التعافي بحالةٍ مُثلى وفُضلى، وبغض النظر عن شكل أو طبيعة الحالة ومدى حدّتها؛ فإن هنالك العديد من الطرق الفعّالة لعلاج الصحة النفسية، والتي من شأنها نشل المريض أو المصاب من حالات تدهور الصحة النفسية وتشافيه بالكامل لممارسة حياته بصورةٍ مستقرةٍ وهادئة وهانئة بعيداً عن هذه المشكلات والاضطرابات، فالأمر إذن مرهون باتخاذ القرار وتعزيز الإرادة الذاتية وحوافز أو دوافع التحدي لتحقيق الراحة والهدوء والاستقرار والسلام النفسي، وذلك حتى لو كان بالإجبار الذاتي المحمود، وفي حين تختلف طرق العلاج النفسي المناسبة والفاعلة استناداً للحالة وتداعياتها ومدى حدتها ودرجاتها ومستوياتها أو مستويات التحكم فيها والسيطرة عليها؛ فإنها تتجلى أبرز وأهم طرق علاج الصحة النفسية بالتالية إجمالاً:
العلاج الذاتي
وذلك عبر إدراك الحالة وتجنب المشاعر والأفكار التي من شأنها الإسهام في تفاقمها، والابتعاد عن كل السلوكيات التي قد تُعزّزها، في مقابل التوجّه بإصرارٍ وإرادةٍ قوية وصارمة إلى المشاعر والأفكار والسلوكيات التي من شأنها تحسين الصحة النفسية بما في ذلك ممارسة الرياضة والتمارين اليومية، وتحسين السلوك الذاتي، والالتزام الديني المعتدل، ومراجعة العلاقات الاجتماعية وتعزيز الإيجابي منها وإثرائها سواءً العلاقات العائلية، أو العاطفية، أو العملية، أو العلاقات مع الأصدقاء، ذلك إلى جانب الانتظام الغذائي الصحي والجيد، والانتظام في ساعات النوم والاستيقاظ، والبقاء في أوساط إيجابيةٍ مفعمة بالنشاط والحيوية المُثمرة، والانشغال أو الانغماس في العمل خلال الأوقات المحددة له، وممارسة الأنشطة الحياتية الترفيهية الإيجابية والمحببة كالاستماع إلى الموسيقى، أو القراءة، أو مشاهدة العروض، أو السفر والترحال، أو السباحة، أو الرياضة، وما إلى هنالك من الأنشطة الترفيهية الأخرى.
مراجعة معالج أو مستشار متخصص في الصحة النفسية
إن استشارة المعالج أو المستشار النفسي ليست منقصةً في هذه الحالة، وإنما وسيلةً للتشافي والاكتمال الصحي النفسي؛ إذ يمكن أن يُجري المعالج أو المستشار المختص اختبار الصحة النفسية للشخص المصاب أو الذي يواجه مشاكل نفسية لتحديد حالته، من ثم يُقدم له حُزمةً من النصائح والإرشادات الفاعلة والكفؤة التي من شأنها تخليص الشخص المصاب أو الذي يواجه مشاكل نفسية من مشاكله وما يواجهه من اضطرابات، وذلك باتباع منهجٍ علمي قادر على معالجة الحالات النفسية وتخطيها بسلاسةٍ ويسر وفق طرق واستراتيجيات متخصصة ومتعددة ومختلفة وبما يلائم الشخص المراجع أو المصاب، مما سيساعده على التعافي والاستقرار والشعور بالهدوء والراحة لمواصلة حياته بنمطِ وأسلوبٍ جيد وهانئ.
استخدام الأدوية النفسية باستشارة ووصفة طبية
لقد أسهم التطوّر العلمي والطبي في إيجاد الحلول السريعة والفعّالة للعديد من المشاكل والاضطرابات النفسية، فغدى من الممكن تجاوز الحالات والمشاكل النفسية والتخلص منها والتماثل للشفاء والوصول أو العودة للاستقرار النفسي والسلامة الصحية المتكاملة عبر استخدام وتناول أدوية فعّالة ومخصصة لمثل هذه المشاكل والاضطرابات، ومن هذه الأدوية ما هي مضادة للاكتئاب، والقلق، وغيرها المثبّتة للمزاج والمضادة للذهان، وتجدر الإشارة هنا؛ إلى ضرورة استخدام أيٍ من هذه الأدوية بوصفة طبية وبعد استشارة الطبيب أو الصيدلاني أو المعالج المختص للتأكد من سلامة استخدامها وفاعليتها مع الحالة.
العلاج في مستشفى الصحة النفسية
قد تحتاج بعض الحالات النفسية مراقبة حثيثة وعناية واهتماماً أكبر وأكثر التزاماً، مما قد يتطلب فريقاً مختصاً لمعالجتها وإرسائها إلى بر التشافي والاستقرار، وفي هذا الحال؛ فإن مستشفى الصحة النفسية يمكن أن يكون خياراً مثالياً وممتازاً لذلك، إذ يوفر أجواءً من الهدوء والراحة للأشخاص المصابين والذين يواجهون مشاكل واضطرابات نفسية، ويحرص على سلامتهم والاعتناء بهم وفقاً لأعلى مستويات الكفاءة والاهتمام في هذا الإطار، كما تتعاون العديد من هذه المستشفيات مع الأشخاص المصابين والذين يواجهون مشاكل واضطرابات نفسية بوفرةٍ من الود والإصغاء لمساعدتهم على التشافي والتخلص من اضطراباتهم، ويُعد الذهاب للعلاج في هذه المستشفيات خياراً ذاتياً يعود للأشخاص المصابين والذين يواجهون مشاكل واضطرابات نفسية دون إرغام أو إجبار في الحالات التي لا تخرج عن إطار السيطرة.
وفي السياق ذاته؛ فتوفّر وزارة الصحة السعودية مستشفيات للصحة النفسية في مختلف مدن ومحافظات المملكة، بما في ذلك كلاً من مستشفى الصحة النفسية بجدة، ومجمع إرادة والصحة النفسية في الرياض، وغيرها في مدن ومحافظاتٍ أخرى متعددة.
أفضل طرق وقاية الصحة النفسية
هنالك العديد من الطرق الفعّالة والكفؤة للحفاظ على الصحة النفسية في أفضل حالتها، وإلى جانب ذلك، فيُمكن أن يكون لهذه الطرق والكيفيات أثر في التشافي من المشاكل والاضطرابات النفسية كذلك، وتتمثّل أبرز وأفضل هذه الطرق بالتالية:
- الانتباه للأعراض والقيام بالمضاد لها من الممارسات الإيجابية إلى جانب استشارة الطبيب أو المعالج النفسي على الفور لكفئ هذه الأعراض عن التطوّر
- إجراء اختبار الصحة النفسية بين الحين والآخر وعدم إهمال إجراء الفحوصات لدى الشعور بأعراضٍ متعلقة بالصحة النفسية
- تعزيز الثقة بالنفس وتقدير الذات ومكافأتها على الدوام
- إثراء وتعزيز الروح الإيجابية واتخاذ القرار بالشعور بالسعادة وجلبها دائماً
- القيام بنشاطات وهواية متنوعة ومُحببة
- الاعتناء بالصحة الشخصية بما في ذلك محاولة الالتزام بالنظام الغذائي، والانتظام في ساعات النوم والاستيقاظ، والتخفيف من التدخين قدر الإمكان أو لإقلاع عنه، إلى جانب شرب قدرٍ كافٍ من الماء وممارسة التمارين الرياضية يومياً
- تجنب شرب الكحوليات بأقصى قدرٍ ممكن، والامتناع عن المُخدرات قطعياً
- تعزيز العلاقات الاجتماعية الإيجابية والبقاء في أوساطها خصوصاً العلاقات العائلية أولاً، من ثم العلاقات العاطفية، وعلاقات الصداقة، والعلاقات العملية
- تخصيص وقت للنفس والاستمتاع أو الاسترخاء أو أخذ قسطٍ من الهدوء والراحة بهذا الوقت بأفضل ما يمكن
- العطاء والتطوّع ومساعدة الآخرين باستمرار
- التدرّب على التعامل مع القلق وضغوطات الحياة والموازنة بين ذلك والنشاطات الترفيهية التي تجلب الاسترخاء والراحة
- تحديد الأهداف والانشغال بتحقيق النجاحات والإنجازات
- القيام بتجارب إيجابية وجميلة وفريدة بين الحين والآخر في سبيل كسر الرتابة والروتين
- إظهار الود والحب والاحترام
- الضحك والاستمتاع بمشاعر البهجة بأقصى قدرٍ ممكن في الأوقات المناسبة لذلك
- الشعور بالامتنان على نحو مستمر حيال الأمور الجيدة في الحياة والسعي لتحسين ما ينبغي تحسينه
- الابتعاد عن الأمور والأجواء السلبية أو المزعجة خصوصاً لدى الانزعاج منها، واللجوء إلى الأمور والأجواء الإيجابية والمريحة والمبهجة في المقابل
- تجنّب التعامل بعنف خصوصاً مع الأطفال، وذلك للتقليل من فرصة إصابتهم بالأمراض النفسية ومواجهتهم لاضطراباتها في الوقت الحالي أو مستقبلاً
- التواصل مع الآخرين وإنشاء علاقات إيجابية مع الأشخاص الجيدين
- الاستمتاع والتسلية في أوقات مخصصة من اليوم
- طلب المساعدة حين الحاجة إليها
- التفكير في اليوم أكثر من التفكير في الماضي أو المستقبل والنظر إلى الأمور بنظرةٍ إيجابية وتفاؤلية سواءً في كانت في الماضي أو اليوم أو في المستقبل
- تعلم المهارات الإيجابية الجديدة
بهذا نكون قد قدّمنا لك في هذا المقال؛ معلومات وافية ومتكاملة عن الصحة النفسية، وذلك بما يشمل تعريف وتوضيح ما هي الصحة النفسية، جنباً إلى جنبٍ مع تبيان أبرز أسباب وأعراض المشكلات النفسية، كذلك فلقد استعرضنا أهم طرق العلاج من المشكلات النفسية، وأفضل كيفيات الوقاية منها أيضاً.
إذا كنت ترغب بالحصول على المزيد من المعلومات، وقراءة العديد من المقالات الأخرى المهمّة والشيّقة؛ فإننا ندعوك لتفقّد مدوّنة بيّوت السعودية والبقاء على اطّلاعٍ بكلِ جديدٍ أولاً بأول.